أشباح الوهم المجيدة
في أحد الأعوام، كنتُ أسكن بناية ضخمة، وكنتُ كلما دخلت أو خرجت من الممر المخصص للدخول، يرمقني رجل الأمن ذو البشرة السمراء والبنية الضخمة بنظرة لؤم شديدة، حتى إني كرهت البناية، ورحت أبحث عن سكن آخر.
حاولت مرة أن أبتسم في وجهه، فقابلها بنظرة ازدراء. شيئاً فشيئاً نما في قلبي حقد غريب نحو هذا الرجل، فقد كان يكدرني في اللحظات التي أعود بها إلى منزلي مستبشرة، وأحياناً كنتُ أتفرس في ملامحه المتجهمة وأردد مع نفسي، أنا لا أستحق حتى اللطف من الناس.وهكذا تطور الأمر عندي، فبدأت أنا الأخرى أرسل إليه نظرات مُفزعة، وأحسب أنني جيدة في هذا عندما يتملكني الغضب. ولم أزل أتذكر ذلك المساء الذي غرستُ نظرتي في أحشائهِ حتى تمكن منه الرعب، وبدا واضحاً في ملامحه. وهكذا بدأنا كلاسيكو النظرات المسكونة بالغضب والخبث بيننا؛ صار هذا الرجل القربة التي أفرغ فيها كل مشاكل يومي وعقدي النفسية، فما أن أدخل المبنى حتى أشرع بتسديد النظرات السامة إليه. وفي أحد الأيام وصلني خبر رائع عن ترشيح روايتي إلى جائزة أدبية مهمة؛ ومن شدة سعادتي، ومن دون أي وعي حاضر مني؛ عطفت نحو الجادة المجاورة حيث محل الورد وابتعت ثلاث وردات وعلبة شوكولاته وعدتُ مشياً نحو المبنى، وما أن دخلت حتى وجدت نفسي أتجه نحوه بملامح جادة، أقترب منه وهو يبتعد بخطوات لا تُلاحظ؛ حتى مددت الورد والعلبة إليه ثم ابتسمنا معاً في لحظة واحدة، ابتسامة عميقة أشرقت معها أرواحنا. وكانت الجملة الأولى التي هم بنطقها؛ أجمل كلمة “شكراً” سمعتها في حياتي.
سألني بصوت طفولي: لماذا؟ قلتُ له لأنك أقرب صديق لي هنا، فقد نمت صداقتنا دون حديث. ودون أن أنتبه؛ اكتشفت أنك كنت ملاذاً لي في كل لحظات إخفاقاتي، فهذا الغضب الذي كان يتملك ملامحي ما هو إلا شكوى يومية كنتُ أسكبها عليك دونَ أن أشعر. قال لي والبراءة تطفح من سيمائه: “هذا هو وجهي، لا أعرف طريقة لوصل ملامحي بمشاعري، لكني كنتُ أفرح عندما تلجين المبنى، ثم فجأة كرهتيني؛ بحثتُ عن السبب طويلاً ولكني لم أعثر عليه، وكنتُ أصلي كي تكوني سعيدة”. هكذا نحن كائنات ليس لديها القدرة على رؤية نفسها من الخارج، لذلك كانَ التواضع في رأيي هو أسمى الفضائل، لأنه يصلك بالآخرين كي تتعرف من خلالهم على نفسك التي تظن أنك تعرفها. أصبح “جون” رجل الأمن المحبوب في المبنى، فقد بدأ يتدرب على الابتسامة، حتى تمكنت منه. وهو أيضاً دربني على التوقف عن وضع سيناريوهات كاملة في رأسي والتصرف على أثرها. فكنتُ كلما انزلقتُ في مثل هذه الأفكار ألجأ إلى التأليف.
وهكذا كنتُ أنا “كاتبة” وجون “رجل أمن” يحمي بيتها في الطابق ال٣٨ من أشباح الوهم المجيدة.